الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه سيرة بطل جديد من أبطال الإسلام ممن جاهد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله -تعالى-، وممن فتح الله به البلاد وقلوب العباد حتى أكرمه الله بالشهادة.
- هذا البطل هو الصحابي الجليل: "النعمان بن مُقَرِّن" -رضي الله عنه-، شهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "الأحزاب"، و"بيعة الرضوان"، وشهد مع أبي بكر -رضي الله عنه- "ذي القصة" -موضع قرب المدينة- وحروب المرتدين، ولما نزل النعمان البصرة كان فيمن قاتل الفُرس مع أمراء المسلمين، واستعمله عمر على "كسكر" -بلدة- إلى أن طلب من أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- أن يعزله، وأن يُوليه قتال أهل "نهاوند"، فأجابه إلى ذلك وعيَّنه.
موقعة "نهاوند":
كانت موقعة عظيمة جدًّا لها شأن رفيع ونبأ عجيب، وكان المسلمون يسمونها: "فتح الفتوح"، اجتمع الفُرس من "أصبهان" و"نهاوند" وغيرها... وكلهم حنق وغيظ على المسلمين، وعزموا على قصد "البصرة"، و"الكوفة"، وأن يستردوا بلادهم التي أُخذت منهم.
- اجتمع منهم مائة وخمسون ألفًا، فأرسل "عبد الله بن عبد الله بن عتبان" من الكوفة إلى عمر يستشيره، فجمع عمر الناس واستشارهم، فكان الرأي أن يرسل جيشًا من أهل الكوفة ومن حولهم، وأن يكون الأمير عراقيًّا.
فقال عمر: أما والله لأولين رجلاً يكون أول الأسنة إذا لقيها غدًا.
قالوا: مَن يا أمير المؤمنين؟
قال: "النعمان بن مقرن".
فقالوا: هو لها!
- فاجتمع للنعمان -رضي الله عنه- ثلاثون ألفًا من المسلمين، وسار بهم حتى وصل "نهاوند"، فلما تراءى الجمعان؛ كبَّر النعمان وكبَّر المسلمون ثلاث تكبيرات زلزلت الفرس، ورعبوا رعبًا شديدًا، ثم أمر بحط الأثقال وضرب الخيام.
- ثم أمر بالقتال -وكان يوم الأربعاء- فاقتتلوا ذلك اليوم، والذي بعده، والحرب سجال -أي: جولة للمسلمين وجولة لهم-، فلما كان يوم الجمعة تحصنوا بحصنهم، وحاصرهم المسلمون، فأقاموا عليهم ما شاء الله.
- لما طال الأمر على المسلمين استشار النعمان أهل الرأي من الجيش، فكانت مشورة "طليحة الأسدي" -أحد أبطال المسلمين وشجعانهم- أن يبعثوا سرية تناوشهم حتى يخرجوا من حصونهم، فإذا خرجوا تظاهروا بالهرب حتى يخرجوا جميعهم وراءهم، حتى إذا تكامل خروجهم؛ رجعنا إليهم فقاتلناهم حتى يقضي الله بيننا، فاستجاد الناس الرأي.
- أمَّر "النعمان" على هذه السرية "القَعقَاع بن عمرو"، ونجح "القعقاع" في مهمته، وخرج الفُرس من حصنهم عن بكرة أبيهم -أي: جميعهم-، وكان "النعمان" في انتظارهم، وذلك في صدر نهار يوم جمعة، فعزم الناس على قتالهم إلا أن "النعمان" نهاهم، وأمرهم أن لا يقاتلوا حتى تزول الشمس وتهب الأرواح، وينزل النصر كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
- وألحَّ الناس عليه؛ فلم يفعل -وكان رجلاً ثابتًا- حتى حان الزوال فصلى بالناس، ثم طاف بالرايات يحضهم على الصبر والثبات، ثم دعا ربه -تعالى-: "اللهم ارزق النعمان الشهادة بنصر المسلمين، وافتح عليهم"، وأمَّن المسلمون على دعائه، ثم حمل معه المسلمون، فكأن أول صريع.
- لم يعلم به أحد إلا أخوه "سُويد"، فغطاه بثوب، وأخفى موته، ودفع الراية إلى "حذيفة بن اليمان" -رضي الله عنه-، فأقام حذيفة أخاه "نعيمًا" -أي: ابن مقرن- مكانه، وأمر بكتم موته.
- لقد قاتل المسلمون في هذا اليوم قتالاً عظيمًا، وصبروا لعدوهم حتى هزمهم الله -تعالى-، ففروا هاربين، وتبعهم المسلمون يقتلونهم حتى هلك منهم مائة ألف أو يزيدون.
- وقد أدرك "النعمانَ" معقل بن يسار -رضي الله عنه-، وبه رمق.
فقال النعمان: مَن أنت؟ قال: معقل بن يسار.
قال: ما فعل الناس؟
قال: فتحَ الله عليهم.
قال: الحمد لله، اكتبوا إلى عمر بذلك. وفاضت روحه -رضي الله عنه-.
- فهذا يوم أغر من أيام "النعمان" الغـُر -رضي الله عنه-.
- إن قصة هذا البطل فيها دروس عظيمة لكل مسلم، فمن ذلك:
1- تربية النفس على الجِد والبذل والتضحية في سبيل إعلاء كلمة الله.
2- الشورى أصل من أصول الحكم، وأصل من أصول الإصابة والاهتداء، فما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم.
3- مَن نصر الله -تعالى-؛ نصره الله.
4- العز والتمكين والنصر على الأعداء له أسباب كثيرة، رأسها: طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.